(الفجرُ)!

(الفجرُ)! خطبة جمعة بمسجد محمد الفاتح بتاريخ : 19/7/1436هـ أعدها أبو البراء عادل بن أحمد باناعمة -الحمدلة . (الفجرُ)! هذه الكلمةُ المختصرةُ مبنى .. الضخمةُ معنى. إنّها ثلاثةُ أحرفٍ لا أكثرَ ... ولكنّها تحملُ في طياتِها عوالم لامحدودةً من المعاني والأفكار والمشاعر والأحاسيس. يرتبطُ الفجرُ في حسِّ المؤمنِ العابدِ بأنفاسِ العبادةِ والرضوان. ويرتبطُ في حسِّ المجاهدِ المناضل بأحلام النصرِ والظفر. ويرتبط في حسّ المهموم المغموم بأطياف الأمل والفرجِ. ويرتبطُ في حسِّ الشاعر المبدعِ بصورِ الرقةِ والجمالِ. فالمؤمنُ العابدُ يستقبلُ الفجرَ بعينين دامعتينِ من الفرحِ، أنِ انقضى يومٌ من أيامِهِ في طاعةٍ واستقبلَ يوماً آخر في طاعة! ودامعتينِ من الحزنِ خشيةَ ألا يكونَ قد قُبل منه! جلس عليُّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه يوماً يبكي حتى طلعت الشمس، ثم قبض على لحيته وقال: "لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيت أحدًا يشبههم؛ كانوا يصبحون شعثًا غبرًا صفرًا بين أعينهم كمثل ركب المعزى، قد باتوا لله سجدا وقيامًا يتلون كتاب الله، يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا طلع الفجر مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح وهطلت أعينهم بالدموع فاخضلت بها لحاهم، والله لكأن القوم باتوا غافلين!! والمؤمن العابدُ يستقبل الفجرَ بهمةٍ للذكرِ والعبادةِ؛ لأنّه يعرفُ أن يوم الإنسانِ كجملِهِ إن أمسك أولَهُ تبعه آخرُهُ، فهو لذلك يمسكُ الفجرَ بالطاعةِ والذكر والعبادة. روى مسلمٌ عن أبي وائلٍ شقيقِ بن سلمةَ الأسديّ أنّه دخل على ابن مسعودٍ يوماً فإذا هو يسبّحُ حتى إذا ظنَّ أنَّ الشمسَ قد طلعت، قال: يا جارية : انظري هل طلعت؟ قال: فنظرت فإذا هي لَم تَطلُع، فأقبل يُسبِّح، حتى إذاظنَّ أنَّ الشمسَ قد طلعت، قال : يا جارية : انظري هل طلعت؟ قال : فنظرت فإذا هي قدطلعت ، قال : الحمد لله الذي أقالنا يومنا هذا، ولم يُهلكنا بذنوبنا. [مسلم 1/564]. وقال ابن القيم رحمه الله: "حضرتُ شيخَ الإسلام ابنَ تيمية مرَّةً صلّى الفجرَ، ثم جلسيذكُر اللهَ تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفتَ إليَّ وقال: هذه غدوتِي ،ولو لَم أتغذَّ هذا الغِذاءَ سقطت قوَّتِي".[الوابل الصيب: 85-86] ولابن القيمِ كلامٌ أعجبُ في مسألةِ الفجر، واستقبال صباح اليوم بالعملِ الصالحِ، قال رحمه الله: "ومِن المكروه عندهم- أي السلفُ رحمهم الله- النَّومُ بين صلاةالصبح وطلوع الشمس، فإنَّه وقتُ غنيمَة، وللسير ذلك الوقت عند السالكين مزيَّةٌعظيمةٌ، حتى لو ساروا طول ليلِهم لَم يسمحوا بالقعود عن السير ذلك الوقت حتى تطلعالشمسُ ، فإنّه أوَّلُ النهار ومفتاحُه، و وقتُ نزول الأرزاق، وحصولِ القَسْم،وحلول البركة، ومنه ينشأ النهار، وينسحبُ حكمُ جميعه على حكم تلك الحصَّة، فينبغيأن يكون نومُها كنوم المضطر". هكذا ينظرُ العابدُ للفجرِ، بحسبانِهِ مفتتحَ جولةٍ جديدةٍ من العبادةِ والطاعةِ والقرباتِ، إنّه لحظةُ استلام وتسليم، تسليمٍ للكشف العباديّ ليوم مضى، واستلامٍ لكشفٍ جديدٍ يتشوف لملئِهِ بأضعافِ ما ملأ به الأولَ. أما المجاهدُ المناضلُ الذي أعطى ربَّهُ وأمته من نفسِهِ ومالِهِ ودمِهِ، فإنّه يرقبُ في الفجرِ أملاً بانتصار أمتِهِ ووطنِهِ، وحلماً بعودةِ عزتِهما وهيبتهما، ويرى فيه رمزاً لانقشاع الظلمِ، وارتفاعِ الجورِ، وعلوِّ العدلِ. هاهو شاعرُ فلسطينَ يرفق الفجرَ من بعيدٍ ويرى فيه صلاحَ الدينِ قادماً يطهرُ بإذن الله الأرض ويحمي العرض: يفلتُ العمرُ من يدينا وحيفا ... لصلاحٍ تدقُّ بابَ الجهادِ عُد إلينا قد ضيع الدين والدنيا صعاليكُ من عبادِ العبادِ ياصلاح الدين فجري وفجر الشرق قلبٌ كقلبكَ الوقادِ وهاهو شاعرُ اليمنِ يتغنى لفجرٍ أطلق الحياةَ، وأذن للعصافير أن تغرّدَ: أسفرَ الفجرُ فانهضَنْ ياصديقي ... نقتطفْ سحرَهُ ونحضنْ بريقَهْ كم حننّا إليه وهو شجونٌ ... في حنايا الظلام حيرى غريقه وانتظرناه والدجى يُرعشُ الحلم ... على هجعةِ القبورِ العتيقه هكذا كان ليلنا فتهادى ... فجرنا الطلقُ فالحياةُ طليقه! فابسموا: عاد فجرنا وهو يتلو ... للعصافير من دمانا وثيقه! [ديوان البردوني 1/210] هكذا ينظرُ المجاهدون المناضلون للفجرِ، أيقونةً للنصرِ، وأملاً في الفتحِ، وفاتحةً لغدٍ جديدٍ. أما المهمومُ المغمومُ، الذي كربه دين، أو أرهقه مرضٌ، أو قعد به همٌّ، أو عضه فقرٌ.. فإنّ الفجرِ في عينيه أملُ الفرج. وقد جعل الله الصبحَ موعدَ فرجِ لوطٍ عليه السلام، ونجاتِهِ من كيد قومه، وهلاكِ الظالمين: ((قالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ)). ولنا أن نتأمل في التوافق العجيب بين الفجر والفرج وأن أحدهما ناشئٌ من تقليب الآخر! كذلك هو الفجر عند المهمومِ .. أملٌ وحلمٌ وأمنياتُ فرجٍ. أما الشاعرُ المبدعُ فإنه يلمحُ ما في الفجر من جمال الخلق الذي أبدعه الخالق سبحانه. إنه ينظر إلى خيوط النور وهي تهدهد الأطيار في أوكارها فإذا هي تتغنى فرحا و تشدو بأعذب ألحانها . و يشهدُ في تلك اللحظات المهيبة صراع النور و الظلمة واعتراك الليل و النهار ، ويبصر ميلاد يوم جديد . فإذا هو يترنّمُ: بادر الفجر و اشتمل بإزاره وتمتع بالحسن في أغـــواره ودع الهيكل الترابي حينـا واسر بالروح في مدى مضماره وتأمل فيض الجمال على الوا دي نضيرا يشع في أسحــاره سترى غرة ليوم جديــد كان في الغيب وانبرى من ستاره الفجرُ إذنْ حيثما قلبتَهُ، وكيفَ نظرتَ إلى معانيه، وأحوال الناس معه وجدتَ خيراً، وبركةً، وتفتُّحاً. وقد ذكرَ ابن فارسٍ رحمه الله في معجمه البديع مقاييس اللغةِ أنَّ (الفاء والجيم والراء) أصلٌ واحدٌ معناه: التفتُّحُ في كل شيء. وقد تتبعتُ ورود الفجرِ في القرآنِ الكريم فوجدتُهُ ذُكِرَ في خمسةِ مواضعَ، موضعٍ للصومِ، وموضعٍ للصلاةِ، وموضعٍ للبركةِ، وموضعٍ للأدبِ، وموضعٍ للنصرِ. وكلها مواضعُ خيرٍ وإحسان. فالصومُ في قوله تعالى: ((وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ)) والصلاةُ في قوله تعالى: ((أقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا)) والبركةُ في قوله تعالى: ((إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)) والأدبُ في قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)) وأما موضعُ النصرِ فقد خصّه القرآن بسورةٍ كاملةٍ هي سورة (الفجر)، صدرها المولى جل جلالُهُ بقسمٍ بالفجرِ: (والفجر وليالٍ عشرٍ). ثم ملأها بذكرِ خبرِ الظالمين، وكيف أخزاهم الله، ونصر أهل الحقّ عليهم: ((ألم تر كيف فعل ربك بعادٍ، إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلادِ، وثمود الذين جابوا الصخر بالوادِ، وفرعون ذي الأوتاد، الذين طغوا في البلاد، فصب عليهم ربك سوط عذاب، إن ربك بالمرصاد)) هل رأينا أيها الأحبة كم هو الفجرُ مباركٌ وعظيم ؟ هل أحسسنا كما هو جميلٌ ونبيل؟ هل عرفنا قيمة هذه الساعةِ التي يولدُ فيها يومٌ من رحمِ يوم؟ وتخرجُ حياةٌ من حياةٍ؟ هل أدركنا (رمزيةَ) الفجرِ؟ وأنّ ساعةَ الزمان المحدودةَ هذه تفتحُ أبواباً لامحدودةً من الأزمنةِ والأمكنةِ والآمال والأحلام والطموحاتِ والأشواقِ والأمنياتِ؟ هل نستغربُ بعد هذا كله أن تكون هذه الساعةُ تحديداً .. وهذا الوقتُ بعينه (مابين انفجار الفجر إلى طلوع الشمس) وقتاً مختاراً باختيارٍ ربانيّ لصلاةٍ تشهدُها الملائكةُ؟ روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة ، و تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح . يقول أبو هريرة : اقــرؤوا إن شئتم (( وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا )) [ البخاري 4717 ] وفي حديث آخر عند البخاري بيان أوفى لهذه الشهادة العظيمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قـال : ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل و ملائكة بالنهار و يجتمعون في صلاة العصر و صلاة الفجر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم و هو أعلم فيقول : كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : تركناهم يصلون و أتيناهم يصلون ) [ البخاري 3223 ] وهكذا تكون صلاة الفجر مجتمعا للملائكة و محفلا من محافل الخير و الطاعة و العبادة . لا يحضره إلا كل طاهر مطهر من الأبرار يستحق أن يكون في ضيافة الرحمن فعن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من توضأ ثم أتى المسجد فصلى ركعتين قبل الفجر ، ثم جلس حتى يصلي الفجر كتبت صلاته يومئذ في صلاة الأبرار و كتب في وفد الرحمن )) [ رواه الطبراني بسند حسن ، الترغيب و الترهيب 595 ] بل قد صح في الحديث عند أبي نعيم عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اسمه ميثم أنه قال : بلغني أن الملك يغدو برايته مع أول من يغدو إلى المسجد فلا يزال بها معه حتى يرجع فيدخل بها منزله ، وإن الشيطان ليغدو برايته إلى السوق مع أول من يغدو فلا يزال بها معه حتى يرجع فيدخلها منزله [ الترغيب و الترهيب 601 ] وهذا موقوف له حكم المرفوع . إنّ صلاةَ الفجر أيها الأحبة – بكل ما لها من فضائل سنحاول استعراضها- هي بمثابة التنبيه الربانيّ لقيمةِ هذه اللحظةِ الزمنية التي تفتتح يومَ الإنسانِ. ولذلك فإنا مانجده في مثل هذه الأيام خصوصاً من التفريط فيها والنوم عنها بسبب قصر الليل، هو حالةٌ من التفريطِ في (كينونةٍ) إنسانية إضافة إلى ماهو أهمّ من كونه حالةً من (العصيانِ) للخالق العظيم الجليل. واسمحوا لي كما نظرنا إلى الفجرِ رمزاً زمانياً . أن ننظر إلى صلاتِهِ رمزاً عبادياً. لنرى كم حشد الله فيها من الفضائل والعجائب! فصلاة الفجر تعدل قيام الليل ، روى مسلم في صحيحه عن عثمان بن عفان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : (( من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ، و من صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله )) [ مسلم 656 ] وروى مالك بسند صحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد سليمان بن أبي حثْمة في صلاة الصبح … فمر على الشِّفاء أم سليمان فقال لها : لم أر سليمان في الصبح ؟ فقالت : إنه بات يصلي فغلبته عيناه . فقال عمر : لأن أشهد صلاة الصبح في جماعة أحب إلي من أن أقوم ليلة . [ موطأ مالك 1/131 ، الترغيب و الترهيب 601 ] وصلاة الفجر وصية النبي صلى الله عليه وسلم و الصحابة من بعده لأمة الإسلام ، فعن رجل من النخع قال : سمعت أبا الدرداء حين حضرته الوفاة قال : أحدثكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( … و من استطاع منكم أن يشهد الصلاتين : العشاء و الصبح و لو حبوا فليفعل )) [ رواه الطبراني في الكبير ، وهو حديث حسن / الترغيب والترهيب 1/344 ] و صلاة الفجر نور لصاحبها يوم القيامة ، عن سهل بن سعد الساعدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة )) [ ابن ماجه 870 بسند حسن ، و ابن خزيمة ، الترغيب و الترهيب 603 ]وعند الطبراني بإسناد حسن عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من مشى في ظلمة الليل إلى المساجد لقي الله عزوجل بنور يوم القيامة )) [ الترغيب و الترهيب 602 ] وصلاة الفجر أمان و حفظ من الله ، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عيه وسلم قال : (( من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله تعالى )) [ ابن ماجه 3946 بسند صحيح ] وصلاة الفجر ضمان للجنة ، عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( من صلى البردين دخل الجنة )) [ البخاري 574 مسلم 635 ] و البردان : هما الصبح و العصر . قال الخطابي : سميتا بردين لأنها تصليان في بردي النهار و هما طرفاه حين يطيب الهواء و تذهب سورة الحر [ فتح الباري 2/53 ] وصلاة الفجر حاجز عن النار ، عن أبي زهير عمارة بن رويبة رضي الله عنه قال : سمعت رســول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس و قبل غروبها )) يعني الفجر و العصر [ مسلم 634 ] و لما كانت صلاة الفجر بهذه المنزلة العظيمة كان التفريط فيها جرما كبيرا ، و غفلة غير يسيرة … قال ابن عمر رضي الله عنهما : كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظن [ البزار و الطبراني و ابن خزيمة . الترغيب والترهيب 591 ] وعن أبي بن كعب قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما الصبح فقال : (( أشاهد فلان ؟ )) قالوا : لا . قال : (( أشاهد فلان ؟ )) قالوا : لا . قال : (( إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين ، و لو تعلمون ما فيهما لأتيتموها و لو حبـوا على الركـب [ أحمد و أبو داود بسند حسن ، وقد جزم ابن معين و الذهبي بصحة هذا الحديث ، الترغيب و الترهيب 340 ، 596 ] وأشد من ذلك ما روي عن أبي وائل عن عبد الله رضي اللهم عنهم قال ذكر عند النبي صلى اللهم عليه وسلم رجل فقيل ما زال نائما حتى أصبح ما قام إلى الصلاة فقال بال الشيطان في أذنه [ البخاري1144 ]قال ابن حجر : واختلف في بول الشيطان فقيل هو على حقيقته ، وقيل هو كناية عن سد الشيطان أذن الذي ينام عن الصلاة حتى لا يسمع الذكر . وقيل معناه ملأ سمعه بالأباطيل . وقيل هو كناية عن ازدراء الشيطان به . وقيل معناه أن الشيطان استولى عليه و استخف به حتى اتخذه كالكنيف المعد للبول … وخص البول لأنه أسهل مدخلا في التجاويف و أسرع نفوذا في العروق فيورث الكسل في جميع الأعضاء . [فتح الباري 3/28،29] ولقد تعلقت قلوب السلف رضي الله عنهم بهذه الصلاة لما علموا من جليل فضلها و سوء عاقبة التخلف عنها ، فكانوا أحرص الناس عليها ، حتى لقد قال عبد الله بن مسعود : و لقد رأيتنا و ما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق . و لقد كان الرجل يؤتى به يتهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف . و هاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي الأمة و هاديها يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر ، يقول : (( الصلاة يا أهل البيت { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا } )) [ الترمذي 3206 ] إنه يربي ابنته على الحرص على صلاة الفجر في وقتها . وكان علي بن أبي طالب يمر في الطريق مناديا : الصلاة الصلاة يوقظ الناس لصلاة الفجر و كان يفعل ذلك كل يوم [ صلاح الأمة 2/367 ] وحين اشتكى الإمام سعيد بن المسيب عينه قالوا له : لو خرجت إلى العقيق فنظرت إلى الخضرة لوجدت لذلك خفة ! يدعونه للتنزه في ضواحي المدينة حيث الخضرة و الجو الطليق ، فقال لهم : فكيف أصنع بشهود العتمة و الصبح ؟ [ نزهة الفضلاء 1/376 ] و تزوج الحارث بن حسان رضي الله عنه في ليلة من الليالي فحضر صلاة الفجر مع الجماعة ، فقيل له : أتخرج و إنما بنيت بأهلك الليلة ؟ فقال : و الله إن امرأة تمنعني من صلاة الغداة في جمع لامرأة سوء ! [ صلاح الأمة 2/362 ] وقام عبد الرحمن بن مهدي ليلة حتى جهد فلما طلع الفجر رمى بنفسه على الفراش فنام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس ، فقال : هذا مما جنى علي الفراش ، فجعل على نفسه ألا يجعل بينه و بين الأرض شيئا شهرين [ صلاح الأمة 2/416 ] و مكث الإمام مدين بن أحمد الحميري دهرا إلى حين وفاته لا تفوته التكبيرة الأولى من صلاة الصبح و يمكث في مصلاه و هو على طهارة إلى أن يركع الضحى و ربما جلس بعد ذلك [ المختار المصون 1/576 ] وبقي الشيخ الحفار الغرناطي نحوا من عامين أو أزيد يخرج للصلوات الخمس يهادى بين رجلين لشيء كان برجله حتى كان بعض أصحابه يقول : الحفار حجة الله على من لم يحضر الجماعة [ المختار المصون 1/206 ] وكانوا يرون فوت صلاة الفجر في الجماعة خطبا جللا يستحق العزاء . قال حاتم الأصم : فاتتني صلاة الجماعة ، فعزاني أبو إسحاق البخاري وحده ، و لو مات لي ولد لعزاني أكثر من عشرة آلاف ، لأن مصيبة الدين أهون عند الناس من مصيبة الدنيا ! [ صلاح الأمة 2/420 ]. = الخطبة الثانية : - الحمدلة . أيها الأحبةُ ... رأينا في مفتتح الحديث كيف هو الفجرُ رمزيةً ودلالةً. ثم رأينا في وسطهِ كيف جعل الله لهذا الوقتِ صلاةً تزكيه وتباركه فيتزكى سائر اليوم ويتبارك. ثم رأينا في منتهى الخطبة الأولى كيف هو حرص السلفِ على هذه الصلاة العظيمة. ويبقى لنا أن ننظرَ كيف (حاطَ) المولى جلّ جلالُهُ هذا الصلاةَ بما يزيدها هيبةً ووقاراً ! فجعل قبلها سنةً هي آكدَ السننِ، وجعل بعدها عكوفاً وذكرا هو من أعظم الأذكار أجراً. فراتبة الفجر القبليةِ هي آكدُ الرواتبِ، قال ابن القيم في ذكر عبادة المصطفى صلى الله عليه وسلم: وكان في السفر يواظب عل سنة الفجر والوتر أشد من جميع النوافل دون سائر السنن ، و لم ينقل عنه في السفر أنه صلى سنة راتبة غيرها ، وكان ابن تيمية رحمه الله يقول : سنة الفجر تجري مجرى بداية العمل و الوتر خاتمتـه [ زاد المعاد 1/315 ، 316 ] ، بل وصفها عليه الصلاة و السلام بأنها خير من الدنيا و ما فيهــا [مسلم725] و بأنها أحب إليه من الدنيا جميعا [ مسلم 725 ] ولم يكن صلى الله عليه وسلم إلى شيء من النوافل أسرع منه إلى الركعتين قبل الفجر [ مسلم 724 ]. وسنة الفجر هذه تختص بأمور منها : 1ـ أنه يسن تخفيفها بشرط أن لا يخل المصلي بواجب ، قالت عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتي الفجر فيخفف حتى إني أقول : هل قرأ فيهما بأم القرآن ؟ [مسلم 724 ] 2ـ أنه يقرأ في الركعة الأولى منها بـ { قل يا أيها الكافرون } وفي الثانية بـ { قل هو الله أحد } [ مسلم 726 ] أو في الأولى يقرأ بـ { قولوا آمنا بالله و ما أنزل إلينا } و في الثانية { تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم } [ مسلم 727 ] 3ـ أنه يسن بعدها الاضطجاع على الجنب الأيمن [ البخاري في التطوع و مسلم 736 ]و لا سيما لمن كان يقوم الليل لأنه يحتاج إلى أن يستريح إلا إن كان ممن إذا وضع جنبه على الأرض نام و لم يستيقظ فهذا لا يسن له الاضطجاع . و كذا لا ينبغي الاضطجاع في المسجد أمام الناس، بل يكون ذلك في البيتِ ، وكان ابن عمر يحصب من يراه يضطجع على يمينه [ زاد المعاد 1/319 ]. هذا الراتبة إذن هي الحياطةُ القبلية لصلاة الفجر. وأما الحياطة البعديةُ فهي فضيلة الجلوس بعدها إلى أن تطلع الشمس .. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر تربع في مجلسه حتى تطلع الشمس حسنا [ مسلم 670 ] وفضائل هذا الجلوس عظيمة مباركة ، فهو يعدل حجة و عمرة تامة تامة تامة ، وهو أحب من النبي صلى الله عليه و سلم من عتق أربعة من ولد إسماعيل ، وهو إلى ذلك كفارة للذنوب ماح لها بإذن الغفور الرحيم . ـ روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة و عمرة تامة تامة تامة)) [ الترمذي 586 و قال حسن غريب ] ـ وصح عنه عليه الصلاة و السلام قوله : (( لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من بعد صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل )) [ أبوداود 3667 و إسناده حسن ] ـ وعد أبي يعلى بسند حسن عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( من صلى الفجر فقعد في مقعده فلم يلغ بشيء من أمر الدنيا و يذكر الله حتى يصلي الضحى أربع ركعات خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه لا ذنب له )) [ الترغيب 1/370 ] أيها الأحبةُ ... هكذا انظروا للفجرِ ... صلاةً وعبادةً .. وحلماً وأملاً .. وجمالاً وجلالاً .. ولئن كانتْ كلُّ صلاةِ فجرٍ تنفي عنا خبث الذنوب .. فسيأتي بإذن الله فجرٌ قريبٌ ينفي عن أمةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم خبث الظلمِ والعدوانِ .. فنردد حينها: أصبح الصبح ولا السجن ولا السجان باقِ واذا الفجر جناحان يرفان عليكْ واذا الحزن الذي كحل هاتيكَ المآقي والذي شد وثاقا لوثاق والذي بعثرنا في كل وادي فرحة نابعة من كل قلب يابلادي [ديوان الفيتوري]

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

اسم الله العزيز الجبار

فضفضة حافظ

التوكل على الله