التوكل على الله
التوكل على الله
![]()
تعريف
التوكل:
قال
ابن عباس: التوكل هو
الثقة بالله، وصدق التوكل أن تَثِق في الله وفيما عند الله، فإنه أعظم وأبقى مما
لديك في دنياك.
قال
الحسن: إن من توكُّل
العبد أن يكون الله هو ثقته.
الإمام
أحمد: هو قطع الاستشراف
بالإياس من الخلق، وقال: وجملة التوكل
تفويض الأمر إلى الله - جل ثناؤه -
والثقة
به.
عبدالله
بن داود الخريبي: أرى التوكل
حُسن الظن بالله.
شقيق
بن إبراهيم: التوكل
طمأنينة القلب بموعود الله - عز وجل.
الحسن:
الرضا
عن الله - عز وجل.
علي
بن أحمد البوشنجي: التبرئة من
حولك وقوتك وحول مثلك وقوة مثلك.
ابن
الجوزي عن بعضهم: هو تفويض
الأمر إلى الله ثقةً بحُسن تدبيره.
ابن
رجب الحنبلي: هو صدق اعتماد
القلب على الله - عز وجل -
في
استجلاب المصالح ودفْع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها.
أقسام
التوكل: (مجاله
ومتعلقاته) (مراتبه):
1- توكل
العبد على الله في استقامة نفسه وإصلاحها دون النظر إلى غيره.
2- توكل
العبد على الله في استقامة نفسه، وكذلك في إقامة دين الله في الأرض ونصره،
وإزالة الضلال عن عبيده،، وهدايتهم والسعي في مصالحهم، ودفْع فساد المفسدين،
ورفْعه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3- توكل
على الله في جلْب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية؛ كالرزق والزواج، والذرية
والعافية، والانتصار على العدو الظالم، أو دفع مكروهاته ومصائبه الدنيوية.
وبين
القسم الثاني والثالث من الفضل ما لا يُحصيه إلا الله، فمتى توكل عليه العبد في
النوع الثاني حقَّ توكُّله، كفاه النوع الثالث تمام الكفاية، ومتى توكَّل عليه
في النوع الثالث دون الثاني كفاه أيضًا، لكن لا يكون له عاقبة المتوكل فيما يحبه
ويرضاه.
4- توكل
على الله في جلْب محرم؛ من إثمٍ أو فاحشةٍ، أو دفع مأمور به.
أهمية
التوكل ومنزلته من العقيدة والإيمان والسلوك:
التوكل
على الله خلقٌ عظيم من أخلاق الإسلام، وهو من أعلى مقامات اليقين، وأشرف أحوال
المقربين، وهو نظام التوحيد وجماع الأمر؛ كما أنه نصف الدين والإنابة، نصفه
الثاني، ومنزلته أوسع المنازل وأجمعها، وهو مفتاح كل خير؛ لأنه أعلى مقامات
التوحيد وعبادة من أفضل العبادات، وهو فريضة يجب إخلاصه لله تعالى وعقيدة
إسلامية؛ لقوله تعالى: ﴿ وَعَلَى
اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة:
23].
فإن
تقديم المعمول يفيد الحصر؛ أي: وعلى الله
فتوكلوا لا على غيره.
إن
التوكل شرط من شروط الإيمان، ولازم من لوازمه ومقتضياته، فكلما قوِي إيمان
العبد، كان توكله أكبر، وإذا ضعُف الإيمان ضعُف التوكل؛ قال الله -
عز
وجل -: ﴿ وَعَلَى
اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آل عمران:
122]، وفي
الآية الأخرى: ﴿ وَقَالَ
مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا
إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ﴾ [يونس:
84].
فجعل
دليل صحة الإسلام التوكُّل، وهو من أشرف الرُّتب وأعلى المقامات من أعمال
القلوب، التي هي أصل الإيمان الذي هو أجلُّ وأعظم ما تُعِبِّد الله تعالى به،
والتوكل من أجمع أنواع العبادة وأعظمها؛ لِما ينشأ عنه من الأعمال الصالحة،
والتوكل مقترن بمراتب الدين الثلاث: (الإيمان
والإسلام والإحسان)، وشعائره
العظام، والتوكل مقام جليل القدر، عظيم الأثر، جعله الله سببًا لنيل محبَّته؛
قال تعالى: ﴿ إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران:
159].
وجمع
الله بينه وبين الهداية والحق والدعاء.
التوكل
أصل من أصول العبادة التي لا يتم توحيد العبد إلا به، جاء الأمر به في كثير من
الآيات؛ مثل قوله تعالى: ﴿ فَاعْبُدْهُ
وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾ [هود:
123]، وقوله
- عز وجل -:
﴿ وَتَوَكَّلْ
عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ﴾ [الفرقان:
58].
وهو
من سمات المؤمنين الصادقين قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا
تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال:
2]، وفي
حديث: ((أربع لا
يعطيهنَّ الله إلا مَن أحبَّ: الصمت وهو أول
العبادة، والتوكل على الله، والتواضع والزهد في الدنيا))؛ رواه
الطبراني وهو في "اتحاف السادة".
وقال
علي: يا أيها
الناس، توكلوا على الله، وثِقوا به؛ فإنه يكفي مما سواه.
فائدة:
عندما
نتأمل مقالة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -
نجد
أنه يربط التوكل بالثقة واليقين بالله، وإلاَّ فلا توكُّل ما لم يكن معه اليقين،
واليقين هو أن العبد يعمل لله خالصًا، ولا يطلب به عرض الدنيا، ولا رضا
المخلوقين، وأن يكون في نفس الوقت آمنًا بوعد الله، وهو الرزق، وقيل لبعض
الحكماء: ما الفرق بين
اليقين والتوكل؟ قال: أما اليقين،
فهو أن تصدق الله بجميع أسباب الآخرة، والتوكل أن تصدق الله بجميع أسباب الدنيا،
وقال لقمان لابنه: يا بني، إن
الدنيا بحر عميق قد غرق فيه أناسٌ كثير، فإن استطعت أن تكون سفينتك فيها الإيمان
بالله وحَشوها العمل بطاعة الله - عز وجل -
وشراعها
التوكل على الله، لعلك تبحر، وعن سعيد بن المسيب قال: التَقى
عبدالله بن سلام وسلمان، فقال أحدهما لصاحبه: إن مِت قبلي
فالقني، فأخبرني ما لقيت من ربِّك، وإن مت، لقيتك فأخبرتُك، فقال أحدهما للآخر:
أوَتلقى
الأمواتُ الأحياءَ، قال: نعم، أرواحهم
تذهب في الجنة حيث شاءت، قال: فمات فلان،
فلقِيه في المنام، فقال: توكَّل
وأبشِر، فلم أر مثل التوكل قط، وأبشِر فلم أرَ مثل التوكل قط؛ أخرجه ابن منده،
وأورده ابن رجب في أهوال القبور، والسيوطي في شرح الصدور.
ومما
يدل على أهميته أن الله أمر به نبيه - صلى الله عليه
وسلم - والأنبياء
قبله، وجعله شعارًا لعباده المؤمنين والثناء عليهم، ومن فضل التوكل في القرآن أن
الله أمر فيه رسوله بالتوكل في تسع آيات، وكذلك أمر المؤمنين عامة بالتوكل،
وكذلك التوكل خُلق الرسل جميعًا، وكذلك تبيين القرآن لفضل التوكل، وكذلك ورد فضل
التوكل في السنة، فعن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - كان يقول:
اللهم
لك أسلمتُ، وبك آمنتُ، وعليك توكَّلتُ، وإليك أنبتُ، وبك خاصَمت، أعوذ بعزتك، لا
إله إلا أنت الحي الذي لا يموت، والجن والأنس يموتون)؛ رواه
البخاري، ومسلم، وأحمد.
وعن
الأوزاعي قال: كان من دعاء
النبي - صلى الله عليه
وسلم -: ((اللهم إني
أسألك التوفيق لمحابك من الأعمال وصدق التوكل عليك، وحسن الظن بك)، قال شعيب
الأرناؤوط: ضعيف، أخرجه
أبو نُعيم في الحِلية عن الأوزاعي مرسلاً، والحكيم الترمذي عن أبي هريرة، وعن
أنس بن مالك قال: كان رسول الله
- صلى الله عليه
وسلم - يقول في دعائه:
(اللهم
اجعلني ممن توكَّل عليك، فكفيتَه، واستهداك فهديتَه، واستغفرك فغفَرتَ له)؛ مروي في كنز
العمال ومسانيد الجامع الكبير.
وصفة
التوكل من أبرز صفات المؤمنين الجليلة؛ لأن اعتماد القلب على الأسباب الظاهرة واعتقاد
أنها هي المؤثرة، يُخل بصحة الإيمان وسلامته، بل هو في حقيقته شرك بالله تعالى،
والتوكل على الله تعالى سلوك نفسي وقلبي يقتضيه الإيمان الصحيح الماثل في ساحة
التصور الموجه للسلوك، ومما يدل على أهمية التوكل حاجة المسلم إليه حاجة شديدة،
وخصوصًا في قضية الرزق، أو كان صاحب دعوة وحامل رسالة، وطالب إصلاح، و مما يدل
على أهميته أيضًا ضرورته للعبد وعدم استغنائه عنه طرْفة عينٍ من عدة جهات:
1- من
جهة فقر العبد وعدم ملكه شيئًا لنفسه، فضلاً عن غيره من المخلوقين.
2- من
جهة كون الأمر كله بيد الله تعالى.
3- من
جهة أن تعلق العبد الزائد بما سوى الله مضرة عليه.
4- من
جهة أن اعتماد العبد على المخلوق وتوكُّله عليه، يوجب له الضرر من جهته عكس ما
أمَّله منه.
من
أقوال السلف في بيان أهمية التوكل وارتباطه بالإيمان:
ابن
عباس: التوكل جماع
الإيمان.
سعيد
بن جبير: التوكل على
الله نصف الإيمان.
قال
أبو الدرداء: ذِروة الإيمان
الإخلاص والتوكل، والاستسلام للرب - عز وجل.
وقال
أبو محمد سهل: ليس في
المقامات أعز من التوكل.
قال
سعيد بن جبير: التوكل على
الله جماع الإيمان.
سهل
بن عبدالله: من طعَن في
الاكتساب، فقد طعَن في السنة، ومن طعَن في التوكل، فقد طعن في الإيمان.
أحمد:
التوكل
عمل القلب.
الجنيد
بن محمد: التوحيد قول
القلب، والتوكل عمل القلب.
فُضيل
بن عياض: التوكل قوام
العبادة، والتوكل من أوجب واجبات القلب.
ابن
القيم: إن التوكل
يجمع أصلين: علم القلب،
وعمله، أما علمه: فيقينه بكفاية
وكيله وكمال قيامه بما وكَله إليه، وأن غيره لا يقوم مقامه في ذلك، وأما عمله:
فسكونه
إلى وكيله وطُمَأنينته إليه، وتفويضه وتسليمه أمرَه إليه، ورضاه بتصرُّفه له فوق
رضاه بتصرُّفه هو لنفسه.
والتوكل
من أقوال القلب وأفعاله التي كل منها حسنة وسيئة بنفسها، يحصل بها الثواب
والعقاب بما يكون في القلوب، وإن لم يظهر على الجوارح، ولا يستقيم توكل العبد،
حتى يصلح له توحيده، بل حقيقة التوكل توحيد القلب، فما دامت فيه علائق الشرك،
فتوكُّله معلول مدخول، وكذلك لا يحصل تحقيق التوكل، حتى يؤمن العبد بكمال
ربوبيَّة الله تعالى، وما تتضمنه من كمال الملك والتدبير والسلطان، والقدرة
والتصرف، والمشيئة والقيُّوميَّة، والإحاطة وملْك الضر والنفع، فذلك من أقوى
أسباب ودواعي التوكل؛ ولهذا نجد في كثير من الآيات ربْط التوكل بالربوبية، وكذلك
كل من كان بالله تعالى وصفاته أعلم، كان توكُّله أكمل، والآيات التي بيَّنت تعلُّق
التوكُّل بأسماء الله وصفاته كثيرة، ويستحيل أن يتمَّ توكل العبد، حتى يتم له
أمران لهما صلة تامة بتوحيد الألوهية، وهما: حُسن الظن
بالله - عز وجل -
والتفويض،
والآيات التي ربطت العبادة والإنابة بالتوكُّل، قد صورت العلاقة بين الإلهية
والتوكل، وهي كثيرة، فالتوكل على الله عبادة يجب إخلاصه لله، فصرفه لغيره شِرك
ينافي التوحيد؛ ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة:
23].
إن
كنتم مؤمنين بالله، ومصدقين به، فلا تعتمدوا في جميع أموركم إلا عليه وحده.
إن
الإقرار بالربوبية والألوهية هو أول دليلٍ على أنه وحده - سبحانه -
المستحق
أن يُفرد بالتوكل؛ ﴿ قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ
تَوَكَّلْنَا ﴾ [الملك:
29]، ﴿ إِنِّي
تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ
آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [هود:
56]، ﴿ وَتَوَكَّلْ
عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ﴾ [الفرقان:
58].
وقرن
تعالى التوكُّل بالربوبية والألوهية معًا، ومن ذلك قول الحق:
﴿ قُلْ
هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ﴾ [الرعد:
30]، وقوله:
﴿ رَبُّ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ﴾ [المزمل:
9]، وقوله:
﴿ وَعَلَى
اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آل عمران:
122].
فالألوهية
مقتضية للتبتل إليه تعالى بالكلية وقطْع التعلُّق بالمرة عما سواه من البرية،
والتوكل من أكثر مقامات الإيمان صلةً بأسماء الله وصفاته؛ ولذلك عرَّف بعضهم
التوكُّل بأنه: المعرفة بالله
وصفاته، ومن الآيات: ﴿ وَتَوَكَّلْ
عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ﴾ [الفرقان:
58]، ﴿ وَإِنْ
جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيم ﴾ [الأنفال:
61].
وربط
التوكل بصفتي (العزيز)
و(الحكيم)
في
قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال:
49].
كذلك
الآيات التي يذكر فيها القضاء والقدر، تُذيل بالتوكل؛ إذ يستحيل أن يحصل توكُّل،
حتى يعلم المسلم أن الأمور كلها تصدر عن مشيئة الله وقدرته، وأنها تنتهي كلها
إلى علمه، فلا بد من الإيمان بقضاء الله وقدره، وأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ
لم يكن، وتحقيق التوكل مترتب على تحقيق الإيمان بالقدر؛ قال تعالى:
﴿ وَمَنْ
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ
جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق:
3].
وقال:
﴿ قُلْ
لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى
اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة:
51]، ﴿ وَقَالَ يَا
بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ
مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ
إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [يوسف:
67].
إن
القضاء والقدر والتوكل من أساسيات الدين، والقضاء والقدر سابق للتوكل، والقدر
أشمل وأعم من التوكل، والقضاء والقدر جالبان للراحة والطُّمأنينة والسعادة،
وسلوك الطريق المستقيم، والتوكل داخل في الإرادة الشرعية والقضاء والقدر داخل في
الإرادة الكونية، والتوكل واتخاذ الأسباب يدفعان القضاء والقدر، واقترن لفظ
العبادة بالتوكل في مواضعَ؛ منها:
﴿ إِيَّاكَ
نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة:
5]، و ﴿
فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْه ﴾ [هود:
123].
والتوكل
داخل في معنى العبادة، واقترن التوكل بالتقوى في مواضعَ؛ منها:﴿ وَاتَّقُوا
اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [المائدة:
11]، ﴿ وَمَنْ
يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ
مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾
[الطلاق:
2، 3].
فسرّ
اقتران التوكل بالتقوى هو سرّ اقتران الاستعانة بالعبادة، وكذلك فإن التوكل سبب،
ولكنه ليس كافيًا في حصول المراد، بل يحتاج معه إلى التقوى، وكلٌّ منهما يعتمد
امتثال المأمور واجتناب المحظور.
واقترن
التوكل بالإنابة في مواضعَ؛ منها: ﴿ وَمَا
تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [هود:
88]، ﴿ قُلْ هُوَ
رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ﴾ [الرعد:
30]، ﴿ ذَلِكُمُ
اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [الشورى:
10]، ﴿ رَبَّنَا عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [الممتحنة:
4].
قال
ابن عاشور: والإنابة
الرجوع والمراد بها هنا: الكناية عن
ترك الاعتماد على الغير، وكلاهما يحتاج للآخر، ويجب أن يفرد العبد ربه بكليهما.
واقترن
الصبر بالتوكل على الله في مواضع؛ منها: ﴿ الَّذِينَ
صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [النحل:
42].
فالصبر
مبدأ السلوك إلى الله تعالى، والتوكل هو آخر الطريق ومنتهاه؛ قال تعالى:
﴿ وَلَنَصْبِرَنَّ
عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [إبراهيم:
12].
فالصبر
والتوكل من أقوى الأسلحة في مواجهة الشدائد والصعاب في طريق الدعوة وتحمُّل
أعبائها، وقيل: الصبر خاص
بوقت المصيبة، والتوكل في أمر مستقبل، والصبر في حاجة للتوكل؛ لأنه -
أي
الصبر - من العبادات،
وكلاهما من أُمهات الصفات التي يجب على المؤمن الاتصاف بها، وقيل:
الصبر
في أمر مملوك يحتاج للتحمل، والتوكل خاص بأمر غيبي كوني، يحتاج للاعتماد على
الله والثقة بتدبيره، والتوكل على الله هو نتيجة للصبر، والتوكل على الله في
إقامة الدين ودعوة الناس إليه، يحتاج إلى همة عالية، فهو من أعظم مقامات التوكل
وأرفعها؛ كما هي هِمم الرسل والأنبياء وبعدهم الصحابة - رضي الله عنهم
- قال الله
تعالى: ﴿ إِنْ
أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [هود:
88].
قال
ابن عباس: "حسبنا الله
ونعم الوكيل"،
قالها
إبراهيم - صلى الله عليه
وسلم - حين ألقي في
النار، وقالها محمد - صلى الله عليه
وسلم - حين قال له
الناس: ﴿
إِنَّ
النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ﴾ [آل عمران:
173].
عوائق
التوكل:
1- الجهل
بمقام الله من ربوبية وألوهية، وأسماء وصفات.
2- الغرور
والإعجاب بالنفس.
3- الركون
للخلق والاعتماد عليهم في قضاء الحاجات.
4- حب
الدنيا والاغترار بها مما يحول بين العبد والتوكُّل؛ لأنه عبادة لا تصِح مع جعْل
العبد نفسه عبدًا للدنيا.
قوادح
التوكل:
من
أهمها التفات القلب إلى الأسباب وتعلُّقه بغير الله تعالى، وتلك الأسباب على
ثلاث درجات:
1- التي
ارتبطت المسببات بها بتقدير الله ومشيئته، ارتباطًا مطردًا لا يتخلف كالطعام،
فترُكها ضربٌ من الجنون.
2- ليست
متيقنة، بل هي ظنية كالرقى والاكتواء، فالتعلق بها مضعف للتوكل وكماله، وقيل:
إن
الرقية والكي يَقدحان في التوكل، فكرهوهما دون غيرهما، وقيل:
أنهما
لا يقدحان في كمال التوكل ولا ينافيانه، وقول ثالث بأنه يفرق بين فعل الرقية
بنفسه أو بغيره، وبين طلبها وهو الراجح - إن شاء الله.
ونأتي
لمسألة حكم التداوي، فالأصل فيها الجواز، وأنه لا يقدح في التوكل، بل لا تتم
حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصَبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرًا
وشرعًا، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل؛ كما يقدح في الأمر والحكمة، وفيه أقوال
- أي التداوي -:
مباح،
وترْكه أفضل، ومستحب، وواجب، وقيل: ما غلب على
الظن نفْعه مع احتمال الهلاك بعدمه، فهو واجب، وما غلب على الظن نفْعه، ولا هلاك
محققًا بترْكه، فهو أفضل، وما تساوى فيه الأمران، فترْكه أفضل، وقد ادَّعى قوم
أن ترك التداوي والعلاج من التوكل، وعدُّوا فعل التداوي قادحًا في التوكل، ورد
أهل العلم زعمهم هذا.
3- الموهومة:
ليست
معتبرة شرعًا ولا قدرًا كالتطيُّر - (وهو التشاؤم
بكل مرئي ومسموع ومعلوم) - وتعليق
التمائم والحروز، فالالتفات لها خوفًا وطمعًا بالاستدلال على أمر غيبي، منافٍ
لتحقيق التوكل وكمال التوحيد، وهناك أحاديث يثبت ظاهرها التشاؤم بأشياء معينة؛
كالمرأة، والدار، والدابة، وقد جمع العلماء بينها وبين أحاديث النهي عن
الطِّيرة، وبالنسبة للتفاؤل: هل هو من
الطِّيَرة أم لا؟ على قولين.
والدرجة
الثانية والثالثة جمعها حديث ابن عباس في حديث عرض الأُمم على النبي -
صلى
الله عليه وسلم - وفي آخره قوله:
(سبقَك
بها عكاشة).
ومن
الأشياء التي تنافي أصل التوكل:
1- التعلق
بسبب لا تأثير له - كالأموات،
والغائبين، والطواغيت - فيما لا يقدر
عليه إلا الله.
2- اعتقاد
أن السبب - سواء المشروع
أو المحرم - فاعل بنفسه
دون الله، فذلك شِرك أكبر، ومما ينافي كمال التوكل الواجب:
1- التوكل
في الأسباب الظاهرة العادية على أي شخص قادر حي فيما يقدر عليه.
2- الاعتماد
على أمر ليس سببًا شرعًا، مع اعتقاد أن الضر والنفع بيد الله وحده؛ كالتطيُّر
والتمائم والتِّوَلة، وهناك الوكالة الجائزة، وهي: توكيل الإنسان
في فعل ما يقدر عليه نيابة عنه، لكن ليس له أن يعتمد عليه في حصول ما وُكل فيه،
بل يتوكل على الله في تيسير أمره الذي يطلبه بنفسه أو نائبه، وهناك أمور عدها
العلماء منافية لكمال التوكل المستحب؛ كالكي، والاسترقاء، فهناك علاقة بين إثبات
النفع والضر لله تعالى من جهة، والتوكل عليه والاستعانة من جهة أخرى، فلا
يُتَصوَّر توكُّل العبد إلا بمن يعتقد فيه الضر والنفع؛ قال تعالى:
﴿
قُلْ
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ
بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ
مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ
الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [الزمر:
38].
ومما
ينافي التوكل والتوحيد تعليق النجاح بالأسباب فقط.
والتطيُّر
قادح في التوكل، وذلك أن المتوكل على الله يعلم أن ما أصابه لم يكن ليُخطئه، وما
أخطأه لم ليكن ليُصيبه؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ
لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى
اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة:
51].
وأما
المتطير، فهو في خوف وفزعٍ، دائمُ الاضطراب والقلق من أمور مخلوقة، لا تملِك
لنفسها ضرًّا ولا نفعًا.
علاقة
التوكل بالأسباب:
مواقف
الناس من الأسباب على أربعة أقسام:
1- الالتفات
إلى الأسباب بالكلية، واعتماد القلب والجوارح عليها من غير نظر لمسببها:
كنظرة
الماديين والعقلانيين، فوقعوا في الشرك؛ لأنهم أثبتوا موجدًا مع الله، مستقلاًّ
بالضر والنفع، وهذا باطل مخالف للكتاب والسنة والاجماع، كما أن الأسباب قد تتخلف
عن مسبباتها بإذن الله كما يشهد لذلك الحس.
2- الإعراض
عن الأسباب بالكلية: كنظر غالب
الصوفية للتوكل، فهم لا يرون تحقيق التوكل إلا في ترك الأسباب بالكلية، فتركوا
التكسب والعمل، والاحتراز والاحتياط، والتزود في السفر والطعام، ويرون ذلك كله
منافيًا للتوكل, ولهم شُبَه
ضعيفة أجاب عنها العلماء المحققون؛ كمحمد بن الحسن الشيباني في كتابه:
"الاكتساب في الرزق المستطاب"، والخلاَّل في
كتابه: "الحث على
التجارة والصناعة والعمل"،
والحارث
المحاسبي في كتابه: "المكاسب"، وابن تيمية
وابن الجوزي، وابن القيم وابن مفلح، وابن رجب.
كما
أن الإعراض عن الكسب والخمول بدعوى التوكل، له آفات ومفاسدُ يصعُب حصْرها، وهذا
الموقف - أي:
(الإعراض
عن الأسباب بالكلية) - حكَم عليه
العلماء بأنه قدْح في الشرع.
3- نفي
تأثير الأسباب بالكلية: وصف العلماء
هذا القول بأنه (نقص في العقل)، وهو قول
القدرية الجبرية، وهم يرون أن الله لم يخلق شيئًا سببًا، ولا جعل في الأسباب قوى
وطبائعَ تؤثر، وغرضهم الرد على القدرية النُّفاة، لكنه ردُّوا باطلاً بباطل،
وهذا الموقف فاسد باطل مخالف للكتاب والسنة والإجماع.
4- قيام
الجوارح بالأسباب، واعتماد القلب على مسبب الأسباب - سبحانه وتعالى
-:
هذا
مذهب أهل السنة والجماعة، وهو الحق الذي دلَّ عليه الشرع والعقل، وهو الوسط في
كل مذهب، فأثبت للأسباب تأثيرًا في مسبباتها، لكن لا بذاتها، بل بما أودعه الله
فيها من القوى الموجبة، وهي تحت مشيئته وقدرته، فإن شاء منَع اقتضاءَها، وإن شاء
جعلها مقتضية لأحكامها، فهم - أي:
أهل
السنة والجماعة - يوجبون الأخذ
بالأسباب، ويعتقدون عدم منافاتها للتوكل، بل إن التوكل من أعظم الأسباب في جلْب
المنافع ودفْع المضار، ونفي الفقر ووجود الراحة، ويرون ضرورة الأخذ بالأسباب، مع
عدم الاعتماد عليها، ويكون التوكل بالقلب على الخالق، مع اتِّباع الأسباب في
ظاهر الحال فقط، والأخذ بالأسباب ثم الاعتماد على الله - عز وجل -
هو
مذهب أهل الحق من سلف الأمة؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالَ
يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ
مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ
إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [يوسف:
67].
وفي
جانب الرزق قال تعالى: ﴿ هُوَ
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا
مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُور ﴾ [الملك:
15]، قال
في "مدارج
السالكين": (... لا تقوم
عبودية الأسباب إلا على ساق التوكُّل، ولا يقوم ساق التوكل إلا على قدمِ
العبودية).
والسبب
الذي أُمر العبد به - أمر إيجابٍ أو
أمر استحباب - هو عبادة الله
وطاعته له ولرسوله، والله فرض على العباد أن يعبدوه ويتوكلوا عليه؛ كما قال
تعالى: ﴿ فَاعْبُدْهُ
وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾ [هود:
123]، وقال:
﴿ وَاذْكُرِ
اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا * رَبُّ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ﴾ [المزمل:
8، 9]، وقال:
﴿ وَمَنْ
يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ
حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق:
2، 3].
والمقصود
أن الله لم يأمر بالتوكل فقط، بل أمر مع التوكل بعبادته وتَقواه التي تتضمن فعل
ما أمر، وترْك ما حذَّر، فمن ظنَّ أنه يرضي ربَّه بالتوكل دون فعْل ما أمره به،
كان ضلالاً، كما أن مَن ظن أنه يقوم بما يرضي الله عليه دون التوكُّل عليه، كان
ضلالاً، وأن مَن ظنَّ أن التوكل يغني عن الأسباب المأمور بها، فهو ضال؛ ولهذا
فمَن ظن أنه يتوكل على ما قدر عليه من السعادة والشقاوة، بدون أن يفعل ما أمره
الله به، فإن كانت أسباب مقدورة له وهو مأمور بها، فعَلها مع التوكل على الله؛
كما يؤدي الفرائض، وكما يجاهد العدو، ويحمل السلاح، ويَلبس جُبة الحرب، ولا
يكتفي في دفع العدو على مجرد توكُّله، بدون أن يفعل ما أُمِر به من الجهاد، فإن
قيل: كيف يطلب ما
لا يعرف مكانه؟ جوابه: أن يفعل السبب
المأمور به، ويتَّكل على الله فيما يخرج عن قدرته، مثل الذي يشق الأرض، ويلقي
الحَب ويتوكل على الله في إنزال المطر ونبات الزرع ودفْع المؤذيات، ومن ترَك
الأسباب المأمور بها، فهو عاجز مفرِّط مذموم؛ قال الحسن:
التوكل
لا ينافي السعي في الأسباب؛ قال تعالى: ﴿
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ ﴾ [النساء:
71]،
وقال
تعالى: ﴿
وَأَعِدُّوا
لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾ [الأنفال:
60]،
والتوكل
باعتبار تعلُّقه بالأسباب ينقسم إلى قسمين:
1- توكل
اضطرار.
2- توكل
اختيار.
ومن
الأدلة على ارتباط التوكل بالأخذ بالأسباب:
من
القرآن: ﴿
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ ﴾ [النساء:
71]،
﴿
وَأَعِدُّوا
لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ
بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾ [الأنفال:
60]،
﴿
فَإِذَا
قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ
اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الجمعة:
10]،
﴿
فَكُلُوا
مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [الأنفال:
69]،
﴿
وَتَزَوَّدُوا
فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ [البقرة:
197]،
وقوله
تعالى: ﴿
فَبِمَا
رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ
لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ
وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران:
159]،
﴿
وَلَقَدْ
نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [آل عمران:
123]،
﴿
وَهُزِّي
إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴾ [مريم:
25]،
﴿
أَيْنَمَا
تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ
وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ
تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ﴾ [النساء:
78]، {﴿
وَعَلَّمْنَاهُ
صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ
شَاكِرُونَ ﴾ [الأنبياء:
80]،
﴿
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ ﴾ [النساء:
71]،
ومن
السنة حديث: (وجعل رزقي تحت
ظل رُمحي)؛
رواه
أحمد، وابن أبي شيبة، وذكره البخاري تعليقًا، والهيثمي في المَجمع.
وعن
أنس بن مالك - رضي الله عنه -
قال:
جاء
رجل إلى النبي - صلى الله عليه
وسلم - على ناقة له،
فقال: يا رسول الله،
أدَعها وأتوكَّل؟ فقال: اعْقلها
وتوكل؛ رواه الترمذي وابن أبي الدنيا، وأبو نُعيم والبيهقي، وابن حبان.
وعن
عمر - رضي الله عنه -
عن
النبي - صلى الله عليه
وسلم - قال:
لو
أنكم توكَّلون على الله حقَّ توكُّله، لرزقكم كما يرزق الطير؛ تغدو خِماصًا،
وتعود بطانًا؛ رواه أحمد، وابن المبارك في الزهد، والترمذي في الزهد، وابن ماجه
في الزهد، والحاكم وصحَّحه، ووافَقه الذهبي والبيهقي في الشُّعَب، وأبو نُعيم في
الحلية وغيرهم.
خماصًا:
جياعًا،
بطانًا: مُمتلئات
البطون، والمعنى الإجمالي للحديث: أن التوكل
الصحيح هو تفويض الأمر إلى الله - عز وجل -
والثقة
بحُسن النظر فيما أمر به، فلو أن المسلمين يتوكلون على الله -
جل
ثناؤه - في كل شؤونهم،
لرزَقهم كالطير تمامًا، ولكن بعضهم يعتمد على قوته وحذره، ويحلف بالباطل، وكل
هذا خلاف التوكل.
وعن
المقدام بن معدي كرب عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - قال:
ما
أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود -
عليه
السلام - كان يأكل من
عمل يده؛ رواه البخاري، وابن ماجه، وأحمد، والبيهقي في الشُّعَب.
وعن
عمر - رضي الله عنه -
قال:
كان
رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - يُنفق على
أهله نفقة سنتهم من هذا المال، ثم يأخذ ما بقي، فيجعله مجعل مال الله، فعمل رسول
الله - صلى الله عليه
وسلم - بذلك حياته؛
رواه البخاري، ومسلم.
ولقي
عمر بن الخطاب ناسًا من أهل اليمن، فقال: من أنتم؟
قالوا: نحن
المتوكلون، فقال أنتم المُتَّكلون، إنما المتوكل الذي يُلقي حبةً في الأرض
ويتوكَّل على الله، وفي ذلك الرد البليغ على من يتركون الأسباب تقاعسًا بدعوى
التوكل على الله، ولو صدَقوا لأحسَنوا العمل.
أما
التواكُل، فهو ترك الكسب، والطمع في المخلوقين، والاعتماد عليهم بالتخلي عن
الأسباب التي وضعها الله - عز وجل -
والانقطاع
عن السعي والتقاعد عن العمل، وانتظار النتائج من الخلق أو القدر، أو الاتكال على
الله أن يَخرِق له العوائد، ولأصحاب هذا المفهوم أدلة، والتواكل خِسَّة هِمَّة،
وعدم مُروءة؛ لأنه إبطال حكمة الله التي أحكمها في الدنيا من ترتُّب المسببات
على الأسباب، ولقد حارب الإسلام التواكل وحذَّر منه، وهو حرام ليس من الشرع
أصلاً، وهو مخالف للنصوص.
ثمار
التوكل:
1- تحقيق
الإيمان: قال تعالى:
﴿
وَعَلَى
اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة:
23].
2- طمأنينة
النفس وارتياح القلب وسكونه.
3- كفاية
الله المتوكل جميع شؤونه؛ لقوله تعالى: ﴿
وَمَنْ
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق:
3].
4- قال
ابن القيم: أي كافِيه،
ومن كان الله كافيه وواقيه، فلا مطمع فيه لعدوِّه، ولا يضره إلا بأذًى لا بد منه
- كالحر والبرد،
والجوع والعطش - وأما أن
يضرَّه بما يبلغ به مراده، فلا يكون أبدًا، وهذا أعظم جزاءً أن جعل الله تعالى
نفسه جزاء المتوكل عليه وكفايته، فلو توكَّل العبد على الله حقَّ توكُّله،
وكادته السموات والأرض ومن فيهنَّ، لجعَل الله له مخرجًا، وكفاه رزقه ونصره،
ولحديث: إذا خرج الرجل
من باب بيته، كان معه ملكان موكلان به، فإذا قال: بسم الله،
قالا: هُديت، فإذا
قال: لا حول ولا
قوة إلا بالله، قالا: وُقِيت، فإذا
قال: توكَّلت على
الله، قالا: كُفِيت، قال:
فيَلقاه
قريناه، فيقولان: ماذا تريدان
من رجل قد هُدي ووُقي وكُفِي؛ رواه الترمذي، وابن ماجه، وروى أبو داود نحوه،
وكذلك أحمد.
5- وروى
ابن ماجه في الزهد عن عمرو بن العاص يرفعه: "إن من قلب ابن
آدم بكل وادي شُعبة، فمن اتَّبع قلبُه الشُّعَب كلها، لم يُبالِ الله بأي وادٍ
أهلَكه، ومن يتوكَّل على الله، كفاه الله التشُّعب".
6- ﴿ وَمَنْ
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق:
3]؛
أي:
كافيه
ما أهمَّه من أمور الدنيا والآخرة، قرأ النبي - صلى الله عليه
وسلم - هذه الآية على
أبي ذر - رضي الله عنه -
وقال
له: لو أن الناس
كلهم أخذوا بها، لكفَتهم؛ رواه أحمد و غيره.
7- من
أقوى الأسباب في جلب المنافع ودفْع المضار.
8- قال
ابن عباس: "حسبنا الله
ونعم الوكيل"،
قالها
إبراهيم - صلى الله عليه
وسلم - حين أُلقي في
النار، وقالها محمد - صلى الله عليه
وسلم - حين قال له
الناس: (إن الناس قد
جمعوا لكم)،
قوله:
"ونعم الوكيل"؛
أي:
نعم
الموكول إليه؛ كما قال تعالى: ﴿
وَاعْتَصِمُوا
بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ [الحج:
78]،
ومخصوص
نعم محذوف تقديره (هو)، قال ابن
القيِّم - رحمه الله -:
هو
حسب من توكَّل عليه، وكافي من لجَأ إليه، وهو الذي يؤمن الخائف، ويُجير
المستجير، فمن تولاَّه واستنصر به، وتوكَّل عليه، وانقطع بكُليَّته إليه،
تولاَّه وحفِظه، وحرسه وصانه، ومن خافه واتَّقاه، أمَّنه مما يخاف ويَحذَر،
وجلَب إليه ما يحتاج إليه من المنافع؛ عن بهيم العجلي عن رجل من أهل الكوفة، قال:بينا
أنا في بستان لي، إذ خُيِّل إليّ شخص أسود، ففزِعت منه، فقلت:
حسبي
الله ونعم الوكيل، فساخ في الأرض (غاصَ فيها)، وأنا أنظر
إليه، وسمعت صوتًا من ورائي يقرأ هذه الآية: ﴿
وَمَنْ
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ﴾ [الطلاق:
3].
9- فالتفتُّ
فلم أر شيئًا، وكتب عامل إفريقية إلى عمر بن عبدالعزيز يشكو إليه الهوام -
(دواب
الأرض المؤذية) - والعقارب،
فكتب إليه: وما على أحدكم
إذا أمسى وأصبح أن يقول: ﴿
وَمَا
لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ ﴾ [إبراهيم:
12]،
قال
أبو زُرعة: وهي تنفع من
البراغيث.
10- يورث
محبة الله تعالى للعبد لقوله تعالى: ﴿
إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران:
159].
11- يورث
قوة القلب وشجاعته، وثباته وتحدِّيه للأعداء، ويُورث القوة الروحية؛ لحديث:
(... ومن
سرَّه أن يكون أقوى الناس، فليتوكل على الله...)؛
رواه
ابن أبي حاتم، وعبدالله بن أحمد في الزهد، والحاكم وابن أبي الدنيا، والطبراني
وأبو نُعيم، وأبو يَعلى والبيهقي في الزهد من حديث ابن عباس، وضعَّفه العراقي في
تخريج الإحياء، وحسَّنه المناوي في التيسير تبعًا للسيوطي، ويورث العزة؛ قال
تعالى: ﴿
وَتَوَكَّلْ
عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ﴾ [الشعراء:
217]،
﴿
وَمَنْ
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال:
49]،
﴿
إِنْ
يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا
الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آل عمران:
160]،
﴿
وَتَوَكَّلْ
عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [الأحزاب:
3]،
قال
الحسن: العز والغنى
يَجولان في طلب التوكل، فإذا ظَفِرا أَوْطَنَا.
12- يورث
الصبر والتحمل؛ ولهذا اقترن الصبر بالتوكل على الله في مواضع من القرآن؛ منها:
﴿
الَّذِينَ
صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [العنكبوت:
59]،
﴿
وَلَنَصْبِرَنَّ
عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [إبراهيم:
12].
13- يورث
النصر والتمكين؛ ولهذا قرن الله تعالى بينه وبين التوكل في قوله:
﴿
إِنْ
يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا
الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آل عمران:
160]،
﴿
وَمَنْ
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال:
49].
14- يقوِّي
العزيمة والثبات على الأمر: قال تعالى:
﴿
فَإِذَا
عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل
عمران: 159]،
وقال
تعالى: ﴿
قُلْ
لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى
اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة:
51]،
ولحديث:
(إذا
وقعتم في الأمر العظيم، فقولوا: حسبنا الله ونعم
الوكيل)؛
عزاه
ابن كثير لابن مردويه.
15- يقي
من تسلُّط الشيطان: قال تعالى:
﴿
إِنَّهُ
لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [النحل:
99]،
وفي
حديث: (إذا خرج الرجل
من باب بيته، كان معه ملكان موكلان به، فإذا قال: بسم الله،
قالا: هُدِيت، فإذا
قال: لا حول ولا
قوة إلا بالله، قالا: وُقِيت، فإذا
قال: توكَّلت على
الله، قالا: كُفِيت، قال:
فيلقاه
قريناه، فيقولان: ماذا تريدان
من رجلٍ قد هُدي ووُقِي وكُفِي)؛
رواه
الترمذي، وابن ماجه، وروى أبو داود نحوه، وكذلك أحمد.
16- من
أسباب دفْع السحر والحسد والعين: قال تعالى:
﴿
وَقَالَ
يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ
مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ
إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [يوسف:
67].
يورث
الرزق؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ
النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا
حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران:
173]، وعن
عمر - رضي الله عنه -
عن
النبي - صلى الله عليه
وسلم - قال:
لو
أنكم توكَّلون على الله حقَّ توكُّله، لرزقكم كما يرزق الطير؛ تَغدو خماصًا
وتعود بطانًا؛ رواه أحمد، وابن المبارك في الزهد، والترمذي في الزهد، وابن ماجه
في الزهد، والحاكم وصحَّحه، ووافقه الذهبي والبيهقي في الشُّعَب، وأبو نُعيم في
الحلية وغيرهم.
17- يطرد
داء العُجب والكِبر.
18- يطرد
التطيُّر والأمراض القلبية؛ كالتشاؤم، ولُبْس الحلقة والخيط؛ قال ابن مسعود:
"وما منَّا إلاَّ ولكنَّ الله يُذهبه بالتوكل)، بعد أن ذكر
حديث النبي - صلى الله عليه
وسلم -: ((الطِّيَرة
شِرك))؛
رواه
أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم وصحَّحه، ووافقه
الذهبي، وهو كما قالا.
19- يُورث
الرضا بالقضاء؛ قال ابن القيِّم: فإنه إذا
توكَّل حق التوكل، رضِي بما يفعله وكيلُه.
20- سبب
في دخول الجنة بلا حساب ولا عذاب؛ لحديث ابن عباس في السبعين ألفًا الذين يدخلون
الجنة بغير حساب؛ متفق عليه.
21- الأمل.
22- دخول
الجنة بوجوه مضيئة على صفة القمر، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -
قال:
سمعت
رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - يقول:
يدخل
الجنة من أُمتي زُمرة هم سبعون ألفًا تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر...).
23- هم
أول من يدخل الجنة؛ لحديث: (أول زُمرة
تدخل الجنة على صورة القمر، والذين على آثارهم كأحسن كوكب دُري في السماء إضاءةً)؛ رواه البخاري
ومسلم.
24- الثقة
بالله وعدم اليأس.
25- الثبات
على الحق: قال تعالى:
﴿
فَتَوَكَّلْ
عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ﴾ [النمل:
79].
26- صدق
الجهاد والإقدام على معالي الأمور.
نماذج
عملية في التوكل واتخاذ الأسباب:
• ترتيبات
رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - للهجرة
للمدينة من استئجار دليلٍ مُشرك؛ ليدله على طريق الهجرة للمدينة، وغير ذلك.
• موقفه
في غزوة بدر الكبرى.
• ظاهر
رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - يوم أُحد بين
دِرعين.
• ما
حدث له بذات الرقاع من رفْع الأعرابي سيف النبي - صلى الله عليه
وسلم عليه -؛
رواه
البخاري ومسلم.
• دخل
رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - مكة والبيضة
على رأسه.
• كان
يحمل الزاد والمزاد إذا سافر في جهاد أو حجٍّ أو عُمرة، وجميع أصحابه.
• إبراهيم
- عليه السلام -
في
قصة حرقه بالنار.
• موسى
- عليه السلام -
في
لحاق فرعون وقومه له عند البحر.
• أصحاب
الكهف والرقيم في نومهم بالكهف تاركين الكفرَ وأهله.
• كان
الأنبياء يفعلون أسبابًا يحصل بها الرزق.
• كان
المهاجرون في مجموعهم أهل تجارة وكان الأنصار أهل زرعٍ.
توكلت
على الله:
كل
من سار في هذه الدنيا، ووَطِئَت قدمه الثرى، يحتاج إلى من يعينه وينصره، ويحتاج
إلى من يتوكَّل عليه، وينصرف بقلبه إليه؛ ولهذا كان التوكل على الله والاعتماد
عليه في جلب المنافع ودفع المضار، وحصول الأرزاق، والنصر على الأعداء، وشفاء
المرضى وغير ذلك - من أهم
المهمات وأوجب الواجبات، وهو من صفات المؤمنين، ومن شروط الإيمان، ومن أسباب قوة
القلب ونشاطه، وطُمَأنينة النفس وسكينتها وراحتها.
والآيات
في الأمر بوجوب التوكل على الله، والحث عليه في كتاب الله - عز وجل -
كثيرة؛
منها قوله: ﴿ وَعَلَى
اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة:
23]، وقوله
تعالى: ﴿ فَإِذَا
عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾ [آل عمران:
159]، وقال
- عز من قائل -
في
صفات المؤمنين: ﴿ إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا
تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال:
2].
وفي
الحديث الصحيح المتفق عليه أن النبي ذكر أنه يدخل الجنة من أمته سبعون ألفًا لا
حساب عليهم، ثم قال في وصفهم: ((هم الذين لا
يتطيَّرون، ولا يَسترقُّون، ولا يَكتوون، وعلى ربهم يتوكَّلون)).
وعن
ابن عباس - رضي الله
عنهما - قال:
"حسبنا
الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم - عليه السلام -
حين
أُلقي في النار، وقالها محمد حين قالوا: ﴿ إِنَّ
النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا
حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران:
173]"؛ رواه
البخاري.
وعن
عمر بن الخطاب عن النبي قال: ﴿ لو
أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً -
جياعاً
- وتروح بطاناً -
شباعاً
﴾ [رواه أحمد
والترمذي].
حقيقة
التوكل:
قال
ابن رجب: "هو صدق اعتماد
القلب على الله - عز وجل -
في
استجلاب المصالح، ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة، وكِلَة الأمور كلِّها
إليه، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع، ولا يضر ولا ينفع سواه".
وقال
ابن القيِّم: "التوكل:
نصف
الدين، والنصف الثاني: الإنابة، فإن
الدين: استعانة
وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة، ومنزلته أوسع المنازل
وأجمعها، ولا تزال معمورة بالنازلين؛ لسَعة متعلق التوكل، وكثرة حوائج العالمين،
فأولياؤه وخاصته يتوكلون عليه في الإيمان، ونصرة دينه، وإعلاء كلمته، وجهاد
أعدائه، وفي محابِّه وتنفيذه أوامره".
وقال
الحسن: (إن توكُّل
العبد على ربه أن يعلم أن الله هو ثقته".
قال
سعيد بن جبير: (التوكل جماع
الإيمان).
وقال
بعض السلف: (من سرَّه أن
يكون أقوى الناس، فليتوكل على الله).
وقال
سالم بن أبي الجعد: (حُدِّثت أن
عيسى - عليه السلام -
كان
يقول: اعملوا لله،
ولا تعملوا لبطونكم، وإياكم وفضولَ الدنيا، فإن فضول الدنيا عند الله رجزٌ، هذه
طَيْر السماء تغدو وتروح ليس معها من أرزاقها شيء - لا تَحرُث،
ولا تحصُد الله - يرزقها).
فَهم
خاطئ للتوكل:
قد
يظن بعض الناس أن معنى التوكل ترْك الكسب بالبدن، وترك التدبير بالقلب، والسقوط
على الأرض كالخرقة، وهذا ظن الجهَّال، وحرام في الشرع، ولا شك أن ترْك التكسب
ليس من التوكل في شيء، إنما هو من فعْل المبطلين الذي آثَروا الراحة، وتعلَّلوا
بالتوكل.
قال
ابن رجب: (واعلم أن
تحقيق التوكل لا ينافي السعي في الأسباب التي قدّر الله -
سبحانه
- المقدورات
بها، وجرت سنته في خلقه بذلك، فإن الله تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره
بالتوكل، فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة له، والتوكل بالقلب إيمان به؛ كما قال
تعالى: ﴿
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ ﴾ [النساء:
71]،
وقال:
﴿
وَأَعِدُّوا
لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ﴾ [الأنفال:
60]،
وقال:
﴿
فَإِذَا
قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ
اللَّهِ ﴾ [الجمعة:
10].
عن
أنس قال: قال رجل:
يا
رسول الله، أعْقلها وأتوكَّل، أو أُطلقها وأتوكَّل؟ قال:
((اعقلها
وتوكَّل))؛
أخرجه
الترمذي.
قال
معاوية بن قُرَّة: ( لقي عمر بن
الخطاب ناسًا من أهل اليمن، فقال: مَن أنتم؟
قالوا: نحن
المتوكلون، قال: "بل أنتم
المُتواكلون، إنما المتوكل الذي يُلقي حَبة في الأرض، ويتوكَّل على الله -
عز
وجل".
وقال
ابن عباس - رضي الله
عنهما -: "وكان أهل
اليمن يحجُّون ولا يتزوَّدون، ويقولون: نحن متوكلون،
فيحجون، فيأتون أهل مكة، فيسألون الناس، فأنزل الله: ﴿ وَتَزَوَّدُوا
فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ [البقرة:
197]؛ رواه
البخاري.
التوكل
عند المسلم هو إذًا عملٌ وأملٌ، مع هدوء قلب، وطُمَأنينة نفس، واعتقاد جازم بأن
ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن الله لا يضيع أجْر من أحسن عملاً.
والناس
مع التوكل ثلاثة أنواع:
الأول:
من
تواكَل وقعَد عن العمل، ولم يأخذ بالأسباب، وهذا مخالف لسنة الله -
عز
وجل - في الكون.
الثاني:
من
قام بالأسباب وترَك التوكل، وهؤلاء الماديون وأتباعهم.
الثالث:
أهل
الحق مَن قاموا بالأسباب وتوكَّلوا على الله - عز وجل -
وهذا
هو طريق الرُّسل والأنبياء ومَن تبعهم بإحسان، فهم يعملون للجنة ويتوكلون على
الله، ويعملون في مصالحهم وهم متوكلون على الله، ويجاهدون وهم مستعدون متوكلون.
قال
النبي - صلى الله عليه
وسلم - : ((المؤمن القوي
أحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرِص على ما ينفعك، واستعِن
بالله ولا تَعجِز، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت
كذا، لكان كذا، ولكن قل: قدَّر الله
وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان))؛ رواه
مسلم.
وعن
أنس قال: قال رسول الله
- صلى الله عليه
وسلم -: ((من قال -
يعني
إذا خرج من بيته -: بسم الله،
توكَّلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: هُديت ووُقيت،
وكُفيت، وتنحَّى عنه الشيطان))؛
رواه
أبو داود، والترمذي، وزاد أبو داود: فيقول -
يعني
الشيطان -: كيف برجل قد
هُدي وكُفي ووُقي؟!.
جعلنا
الله من المتوكلين على الله حق التوكل، ورزقنا الإنابة والخضوع والحاجة له وحده
دون ما سواه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله صحبه أجمعين.
خلاصة
الموضوع
المقدمة:
قصة
إبراهيم - عليه السلام.
حقيقة
التوكل: حقيقة التوكل:
قال
ابن رجب: "هو صدق اعتماد
القلب على الله - عز وجل -
في
استجلاب المصالح، ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة، وكِلَة الأمور كلها إليه،
وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يَمنع، ولا يضر ولا ينفع سواه".
أهمية
التوكل:
• ابن
عباس: التوكل جماع
الإيمان.
• سعيد
بن جبير: التوكل على
الله نصف الإيمان.
وسائل
تحقيق التوكل:
1- اسشتعار
فقر العبد وحاجته إلى الله.
2- معرفة
الله - سبحانه وتعالى.
3- استشعار
ضَعف المخلوقين، وأن أمورهم كلها بيد الله - سبحانه وتعالى.
4- العلم
بالأسباب الطبيعية ليست أكيدة في تحقيق مسبباتها.
5- أن
حصول ما ظاهره الخير ليس مقتصرًا على ذلك.
علاقة
التوكل بالأسباب:
مواقف
الناس من الأسباب على أربعة أقسام:
1- الالتفات
إلى الأسباب بالكلية.
2- الإعراض
عن الأسباب بالكلية.
3- نفي
تأثير الأسباب بالكلية.
4- قيام
الجوارح بالأسباب واعتماد القلب على مسبب الأسباب - سبحانه وتعالى.
ثمار
التوكل:
1- تحقيق
الإيمان: قال تعالى:
﴿
وَعَلَى
اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة:
23].
2- طُمَأنينة
النفس وارتياح القلب وسكونه.
3- كفاية
الله المتوكل جميع شؤونه؛ لقوله تعالى: ﴿
وَمَنْ
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق:
3].
4- من
أقوى الأسباب في جلْب المنافع ودفع المضار.
5- يورث
محبة الله تعالى للعبد؛ لقوله تعالى: ﴿
إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران:
159].
6- يورث
قوة القلب وشجاعته، وثباته وتحدِّيه للأعداء، ويورث القوة الروحية.
7- يورث
الصبر والتحمل.
8- يورث
النصر والتمكين.
9- يقوي
العزيمة والثبات على الأمر؛ قال تعالى: ﴿
فَإِذَا
عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾ [آل عمران:
159]،
وقال
تعالى: ﴿
قُلْ
لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى
اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة:
51]،
ولحديث:
(إذا
وقعتم في الأمر العظيم، فقولوا: حسبنا الله
ونعم الوكيل)؛
عزاه
ابن كثير لابن مردويه.
10- يقي
من تسلُّط الشيطان؛ قال تعالى: ﴿
إِنَّهُ
لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [النحل:
99]،
وفي
حديث: (إذا خرج الرجل
من باب بيته، كان معه ملكان موكلان به، فإذا قال: بسم الله،
قالا: هُديت، فإذا
قال: لا حول ولا
قوة إلا بالله، قالا: وُقِيت، فإذا
قال: توكَّلت على
الله، قالا: كُفِيت، قال:
فيلقاه
قريناه، فيقولان: ماذا تريدان
من رجل قد هُدي ووُقِي وكُفِي)؛
رواه
الترمذي وابن ماجه، وروى أبو داود نحوه، وكذلك أحمد.
11- من
أسباب دفع السحر والحسد والعين؛ قال تعالى: ﴿
وَقَالَ
يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ
مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ
إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [يوسف:
67].
12- يُورث
الرزق.
13- يطرد
داء العُجب والكِبر.
14- يطرد
التطيُّر.
15- يورث
الرضا بالقضاء؛ قال ابن القيم: فإنه إذا توكل
حق التوكل، رضِي بما يفعله وكيلُه.
16- سبب
في دخول الجنة بلا حساب ولا عذاب؛ لحديث ابن عباس في السبعين ألفًا الذين يدخلون
الجنة بغير حساب؛ متفق عليه.
17- الأمل.
18- دخول
الجنة بوجوه مضيئة على صفة القمر.
19- هم
أول من يدخل الجنة للحديث المذكور آنفًا.
20- الثقة
بالله وعدم اليأس.
21- الثبات
على الحق؛ قال تعالى: ﴿
فَتَوَكَّلْ
عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ﴾ [النمل:
79].
22- صدق
الجهاد والإقدام على معالي الأمور.
|
التوكل على الله
![]()
حديثنا
عن توكل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أصدق التوكل وأعظمه وأكمله، وقد خوطب
النبي صلى الله عليه وسلم بالتوكل أمراً به وحثاً عليه وإلزاماً والتزاماً به
كما في آيات كثيرة خوطب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والخطاب له ولأمته من
بعده، كما في قوله: {فَإِذَا عَزَمْتَ
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}
(آل
عمران: الآية 159).
وكما
خاطبه في شأن مواجهة ما يعرض له من عداء المعتدين وإيذاء المؤذين:
{فَأَعْرِضْ
عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً}
(النساء:
الآية
81 ).
وكما
أمر به كذلك في الأحوال المتغيرة من حرب وسلم في قوله جل وعلا:
{وَإِنْ
جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (الأنفال:
الآية61).
وهذه
مواقف تدلنا على أنه عليه الصلاة والسلام امتثل أمر ربه، وكان أصدق المتوكلين
على الله سبحانه وتعالى.
فاعتماده
وتفويضه وثقته بالله عز وجل عظيمة، وذلك في سائر ما مر في حياته عليه الصلاة
والسلام سواء أكان في الفترة المكية التي غلب عليها ضعفه عليه الصلاة والسلام
بقلة أتباعه وقلة حيلته وقلة قوته، أو كان ذلك في مواجهة أعدائه غير المتكافئ
بقلة المسلمين وكثرة المشركين، أو حتى في غير ذلك مما انتهى إليه أمر النبي صلى
الله عليه وسلم مما أعزه الله به ونصره على أعدائه وفتح عليه.
ومن
ذلك هذه المواقف، وهي قليل من كثير.
الموقف
الأول:
هذا
الموقف في دعوة النبي عليه الصلاة والسلام في مواجهة قريش ومعاداتهم له وضغطهم
عليه ووقوفهم في وجهه. وكانوا يرون أن
عمه أبا طالب سيد قريش يمثل حائلاً بينهم وبين أن يواجهوا النبي صلى الله عليه
وسلم، وترددوا على أبي طالب مرات عديدة يكثرون عليه القول في شأن النبي صلى الله
عليه وسلم.
يخاطبونه
في تسفيه ابن أخيه لأصنامهم وفي ذمه لانحرافهم وشركهم، وفي إتيانه بهذه الدعوة
الغريبة عليهم، فيطلبون من أبي طالب أن يخلي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهم يجدون في أذاه ولمزه وغمزه عليه الصلاة والسلام.
وفي
بعض هذه المرات والضغوط التي جوبه بها أبو طالب خاطب النبي صلى الله عليه وسلم
لما أكثروا عليه فكلم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكأن لسان حال أبي طالب
يقول: خفف أو انظر إلى ما يقول هؤلاء القوم،
فإنهم قد يعرضون لك بالأذى، وأنا قد لا أستطيع أن أكون معك حامياً ومدافعاً في
كل الوقت.
وقد
كان النبي عليه الصلاة والسلام ينتفع بحماية أبي طالب له، لكن توكله إنما كان
على الله، واعتماده إنما هو على مولاه، وثقته إنما هي على خالقه سبحانه وتعالى،
ولذلك قال قولته المشهورة لما خاطبه أبو طالب قال: (يا عم والله لو
وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو
أهلك فيه ما تركته) رواه الطبراني في
المعجم الأوسط والكبير وأبو يعلى، وقال الهيثمي رجال أبي يعلى رجال الصحيح.
فهذه
قصة تدل على توكله عليه الصلاة والسلام فإنه يواجه قريشاً قاطبة وعندما يخاطب
ليلين أو يغيّر أو يخفف يقول هذه المقولة، وهو يعلم أنها قولة عظيمة قد تفضي به
إلى مواجهة حاسمة ومع ذلك يقولها عليه الصلاة والسلام واضحة جلية قوية مدوية.
(لو
وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري).
وهذا
أمر محال لكنه يقول: لو فعلوا ما
فعلوا لو بلغوا ما بلغوا لو اشتطوا ما اشتطوا فإنه ثابت عليه الصلاة والسلام على
دعوته، قائم بأمر ربه لا يأبه لهم ولا يكترث لعدائهم ولا يخشى من قوتهم ولا
يلتفت إلى سطوتهم؛ لأن يقينه بالله عظيم وثقته به كبيرة، وهو مفوض أمره إلى الله
سبحانه وتعالى قال: (على أن أترك هذا
الأمر حتى أو أهلك فيه ما تركته). وفي بعض روايات
السيرة: (حتى تنفرد هذه السالفة)
والسالفة
صفحة العنق، أي: حتى ولو فارق
رأسي جسدي، وهذا من أعظم توكله عليه الصلاة والسلام.
الموقف
الثاني:
عندما
خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته وهو عالم بتآمر قريش عليه، بل ويعلم أن
حول البيت من يحيطون به، ينتظرون خروجه لقتله عليه الصلاة والسلام.
ومع
ذلك خرج عليه الصلاة والسلام في ثقة كاملة وطمأنينة تامة ويقين كامل بما أمره
الله سبحانه وتعالى به، فقد أمره الله جل وعلا بالهجرة والخروج إلى المدينة،
فامتثل أمر الله دون أن يكون مكترثاً بما قد يعرض له من الخطر، وإن كان قد أخذ
بالأسباب كما سنذكر في هذه الحادثة وغيرها. والله عز وجل ذكر
شيئاً من ذلك في الوصف: {وَإِذْ يَمْكُرُ
بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ
وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}
(لأنفال:30).
خرج
النبي عليه الصلاة والسلام من بين أيديهم، وسيوفهم مسلطة وهم منتظرون مترقبون
له، لم يكن في قلبه شيء من اضطراب ولا خوف، لم يكن في نفسه شيء من جزع ولا هلع،
وإنما كان فيه من فيض اليقين وصدق التوكل ما جعله يخرج واثقاً بربه، موقناً بأنه
سالم من بين يديه، وإن لم يكن يعرف كيف سيكون ذلك.
أغشى
الله سبحانه وتعالى أبصارهم، أو ضرب النوم على عيونهم، فخرج من بين أيديهم، ولم
يشعروا به عليه الصلاة والسلام: {وَجَعَلْنَا مِنْ
بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ
لا يُبْصِرُونَ} (يس:الآية
9).
وفي
بعض الروايات في السيرة أنه حثا على رؤوسهم شيئاً من التراب، وهذا من صدق توكله
عليه الصلاة والسلام مع أنه أخذ بالأسباب، ولعلنا نذكر قصة الأسباب متأخرة مع
الحادثة الشهيرة في الهجرة التي سطرتها أيضاً آيات القرآن الكريم، ورواها لنا
أبو بكر بألفاظ مختلفة.
ففي
صحيح البخاري عن أبي بكر رضي الله عنه، وهذا لفظ البخاري والرواية عند مسلم قال:
قلت
للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا،
فقال عليه الصلاة والسلام على الفور: (ما ظنك يا أبا
بكر باثنين الله ثالثهما).
وهذا
يدلنا دلالة عظيمة على الاستشعار الحقيقي القريب الوثيق في نفس النبي صلى الله
عليه وسلم برعاية ربه له وعناية مولاه به، ونظر الله جل وعلا إلى حاله وكلاءته
له سبحانه وتعالى.
ولذلك
أبو بكر لم يقل ذلك جزعاً، وإنما قاله خوفاً على رسول الله عليه الصلاة والسلام،
وكانوا وقوفاً على فم الغار، ماذا كانوا يريدون؟ وأي شيء سيفعلون لو وجدوا رسول
الله صلى الله عليه وسلم؟ هل كانوا سيسلمون عليه أو سيدخلون السرور عليه؟.
كان
من المرتقب والمنتظر أن يكون وراء ذلك هلاك ماحق أو موت حاسم ومع ذلك قال بفيض
اليقين وتمام التوكل ولسان ينبئ عن حقيقة مستقرة في القلب والنفس:
(يا
أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما).
والرواية
الأخرى من حديث البراء بن عازب، وهو حديث جميل، حيث كان أبوبكر يطلب من عازب
والد البراء أن يصنع شيئاً، فقال له البراء: لا أفعل حتى
تخبرني ما كان من أمرك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فقص أبو بكر
هذه القصة فقال: ارتحلنا من مكة
فأحيينا أو سرينا ليلتنا ويومنا حتى أظهرنا، يعني في اليوم التالي، وقام قائم
الظهيرة فرميت ببصري هل أرى من ظل فآوي إليه، قال: فإذا صخرة
أتيتها، فنظرت بقية ظل لها فسويته، ثم فرشت للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم قلت له:
اضطجع
يا نبي الله، فاضطجع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم انطلقت أنظر ما حولي هل أرى
من الطلب أحد، فإذا أنا براعي غنم يسوق غنمه، فطلب منه أن يحلب له، قال:
وانطلقت
به إلى النبي فوافقته وقد استيقظ فقلت: اشرب يا رسول
الله فشرب حتى ارتويتُ، ثم قلت: قد آن الرحيل يا
رسول الله قال: بلى فارتحلنا،
والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له،
قال أبو بكر: فقلت:
يا
رسول الله هذا الطلب قد لحقنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(لا
تحزن إن الله معنا) والحديث رواه
البخاري ومسلم.
والله
سبحانه وتعالى قد ذكر إشارة لهذه الواقعة في قول الله سبحانه وتعالى:
{ثَانِيَ
اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ
اللَّهَ مَعَنَا} (التوبة:
الآية
40).
وهذا
من أجلى وأظهر مواقف التوكل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولاشك
أن التوكل هنا تظهر آثاره، عندما يكون الإنسان محاطا بالخطر والخطر محدق به
غالباً ما يكون -إذا كان ضعيف
الإيمان- قليل التوكل يضطرب ويحتار، ولا يمكن حينئذ
أن يكون له حسن تصرف؛ لأن الأناة تذهب عنه ولأن السكينة تفارقه ويكون عنده شيء
من الجزع الذي يجعله في شدة من الحزن والأسى كأنما الأمر قد انتهى.
لكن
التوكل يفيض الطمأنينة ويجعل العقل في تمام الرشد والحكمة وحسن التصرف والتدبر،
ويفيض كذلك صدق الالتجاء إلى الله عز وجل.
الموقف
الثالث:
رواه
جابر بن عبدالله وهو موقف أجلى وأوضح في شدة قرب الخطر المهلك ومع ذلك يكون ثبات
كامل، ورباطة جأش تامة من أثر التوكل.
روى
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال: غزونا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم غزوة قِبل نجد، فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
في واد كثير العضاة، والعضاة: الشجرة ذات الشوك،
فنزل الرسول صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلق سيفه بغصن من أغصانها، وتفرق
الناس في الوادي، كلٌ يبحث له عن شجرة يستظل بها، فبقي الرسول عليه الصلاة
والسلام واحداً مفرداً لم يكن معه أحد من أصحابه، وسيفه معلق في الشجرة التي
استظل بها، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك مخبرا عما جرى له:
(إن
رجلاً أتاني وأنا نائم، فأخذ السيف، فاستيقظت وهو قائم على رأسي فلم أشعر إلا
والسيف سلطاً في يده، يعني السيف مشرع ليس بينه وبيني أي شيء ، فقال لي:
من
يمنعك مني؟ فأجاب النبي على الفور قلت: الله، فأعاد من
يمنعك مني؟ فأعاد الرسول صلى الله عليه وسلم: الله، قال:
فشام
السيف، معنى شام السيف:أي أغمده وتركه،
وفي بعض الروايات أن الرجل ارتعد فسقط السيف من يده، فأخذه النبي صلى الله عليه
وسلم وقال: من يمنعك مني؟
فقال الرجل: كن خير آخذ،
فتركه النبي عليه الصلاة والسلام، ثم قال: هذا هو الرجل
فإذا هو جالس لم يتعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
في
الصورة المعتادة لمثل هذا الموقف أن يكون كمال الخوف وشدة الهلع والاضطراب، لكن
الرسول صلى الله عليه وسلم بكامل الثقة والطمأنينة واليقين والتوكل يجيب إجابة
الواثق بالله عز وجل يقول: الله، ثم يفضي ذلك
أن الرجل يغمد سيفه أو يهتز من بين يديه، فيكون النبي عليه الصلاة والسلام هو
الذي يأخذ السيف ويهدد ذلك الرجل، ويقول من يمنعك مني، فلا يجد الرجل من يمنعه
من رسول الله عليه الصلاة والسلام، فيتركه النبي عليه الصلاة والسلام ويعفو عنه،
ولا يؤاخذه بذلك.
الموقف
الرابع:
حديث
رواه أبو داود وابن ماجه في سننهما من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال:
إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد رجل مجذوم فأدخلها معه في القصعة ثم قال:
"كل ثقة بالله وتوكلاً عليه".
التوكل
هنا واضح، لكن هناك أسئلة الآن تدور في الذهن تتعلق بالأخذ بالأسباب لذلك نقول:
ليس
هنا ترك للأخذ بالأسباب، لكن النبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يبين أمرين:
الأمر
الأول: درجته العالية في التوكل التام على الله
عز وجل.
الأمر
الثاني: أراد أن يبين للأمة أن الأسباب ينبغي أن
يؤخذ بها، لكنها ليست هي المؤثرة بذاتها.
والدليل
أن المجذوم وضع النبي عليه الصلاة والسلام يده في الطعام، ولم يحصل من ذلك شيء
ولا أثر.
فالناس
نقول لهم: خذوا بالأسباب
لكن الأسباب لا تؤدي أثرها إلا بإذن الله، لا يتضح ذلك حتى يكون في صورة عملية
ومثال حي.
وهذا
من صدق توكله وبيان مكانته العالية الرفيعة في التوكل، وهي تعليم للأمة، لماذا
نقول ذلك؟ لأننا نقول: عندما جاء كفار
قريش إلى الغار ألم يكن الرسول عليه الصلاة والسلام قد أخذ بالأسباب؟.
جاء
إلى أبي بكر في نحر الظهيرة في وقت لا يتحرك فيه الناس، قال له:
أعد
الناقة ووافاه في الليل وليس في النهار، لم يتجه شمالاً باتجاه المدينة، لكنه
اتجه جنوباً باتجاه اليمن نحو غار ثور بعيدا عن طريق المدينة، ثم اختبأ في
الغار، وطلب من أبي بكر أن يهيئ بعض الأمور، فكانت أسماء تأتي بالطعام، ويأتي في
آخر الليل عبدالله بن أبي بكر بأخبار قريش ويخرج قبل الفجر ويصبح في أهل مكة كبائت
فيها، ويأتي راعي الغنم ويمر بالغنم حتى يغطي على آثار عبدالله بن أبي بكر.
خطة
محكمة تامة أخذ فيها بكل الأسباب، لكن إرادة الله عز وجل تريد أن تعلم الأمة
كلها أن الأسباب ليست بالضرورة تؤدي إلى النتائج.
هذه
خطة محكمة لكن الله أراد أن يصل بعضهم إلى هذا الموطن لما قالوا إنهم قصوا الأثر
حينئذ ماذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام؟ لم يضطرب ولم يهلع، بل قال:
(ما
ظنك باثنين الله ثالثهما).
هذا
أمر يبين صدق التوكل مع الأخذ بالأسباب حتى في قصة أبي طالب لم يرفض النبي صلى
الله عليه وسلم حماية عمه أبي طالب لم يقل له أنت مشرك لا تدافع عني، لكنه عندما
أراد أن يترك حمايته أو يريده أن يخفف من دعوته، قال: "لا والله لو
وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت ذلك.." كما أسلفنا القول
في هذا الأمر، وهذا أمره واضح وبين ودلالته عظيمة في حياة النبي عليه الصلاة
والسلام.
الموقف
الخامس:
عن
أنس رضي الله عنه بعد ذكره لبعض الصفات العظيمة في النبي عليه الصلاة والسلام:
كان
النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأشجع الناس ثم ذكر لنا صفة أو حادثة، يقول
ولقد فزع أهل المدينة ليلة فخرجوا نحو الصوت. في رواية سهل بن
سعد لهذا الحديث يقول: استيقظ الناس في
المدينة على صوت صارخ في الليل، هنا فزع أهل المدينة فخرجوا نحو الصوت يعني بعد
لحظات وحتى استوعبوا الأمر، وبدؤوا يخرجون قليلاً قليلاً، يقول:
فاستقبلهم
النبي صلى الله عليه وسلم قد استبرأ الخبر يعني ماذا؟ الرسول صلى الله عليه وسلم
قد خرج وذهب وعرف الأمر ورجع، والناس لازالوا مترددين.
وفي
الرواية نفسها قال سهل بن سعد: خرج الرسول صلى
الله عليه وسلم على فرس عري لأبي طلحة، عري: يعني من غير سرج
خرج مباشرة، نعم في هذا شجاعة ولكن فيه توكل، خرج وحده لم ينتظر أعوانا ولا صحبا
ولا قوة، متوكلا على الله عز وجل معتمدا عليه، فخرج وراء الأمر ورجع، وهو يقول:
(لم
تراعوا، لم تراعوا) ثم يقول أنس في
آخر الحديث: وجدناه بحرا،
وإنه لبحر، يعني واسع في صفاته كلها عليه الصلاة والسلام.
ولذلك
كان توكله في مثل هذه المواطن التي ذكرتها بعض كتب السيرة لا يجارى، ولا يبارى،
ولا يشق له غبار عليه الصلاة والسلام.
الموقف
السادس:
موقف
سجلته آيات القرآن للنبي عليه الصلاة والسلام ولأصحابه رضوان الله عليهم، في
غزوة حمراء الأسد، وهي التي كانت عقب أحد مباشرة، وكان يوم أحد شديدا وعصيبا
ومؤلما للمسلمين عموما، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم خصوصا، استشهد سبعون من
أصحابه فيهم حمزة عمه وأسد الله وأسد رسوله عليه الصلاة والسلام، وقد شج وجه
النبي وكسرت رباعيته، والصحابة كلهم مصابون، ثم في اليوم التالي أمر النبي عليه
الصلاة والسلام الصحابة بأن يخرجوا للحاق عدوهم، في اليوم التالي مباشرة ليوم
أحد، وقد سمعوا أن أبا سفيان يريد أن يرجع ومعه بعض الأعراب إلى المدينة
ليستأصلوا شأفة المسلمين، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأمر الرسول
ألا يخرج أحد لم يشهد أحدا، الذين أصيبوا خرج بهم النبي عليه الصلاة والسلام كيف
ستكون قوتهم؟ كيف ستكون قوته؟ سليمين أم مصابين؟ فيهم حزن وألم أم لا؟.
ومع
ذلك خرج النبي عليه الصلاة والسلام، وذهب إلى حمراء الأسد بعد أحد وانتظر يوما
ويومين وثلاثة، حتى إن أبا سفيان أراد أن يرجع بالفعل، فماذا سمع؟ سمع أن محمدا
خرج، فقال: خرج محمد
وأصحابه، فخاف وواصل طريقه إلى مكة، قال الله عز وجل: {الَّذِينَ قَالَ
لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}
(آل
عمران: الآية 173).
نتيجة
الجمع أن يكون هناك خشية وخوف، فماذا قال الله عز وجل في وصفهم:
{فَزَادَهُمْ
إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل}
(آل
عمران: الآية 173).
وكان
هذا من صدق توكل النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، لم يستنصروا بأحد، لم
يستعينوا بغيره، لم يأخذوا شيئا من الأسباب الزائدة عن الحد، بل خرجوا اعتمادا
وتوكلا على الله سبحانه وتعالى.
وقريب
من ذلك وأظهر منه في الجملة، ما كان في يوم الأحزاب، يوم أحاط المشركون بالمدينة
إحاطة السوار بالمعصم، واجتمع بالمسلمين شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد، وأكمل
صعوبة الموقف شدة وبلاء وعسر نقض قريظة للعهد: {إِذْ جَاءُوكُمْ
مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ
وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا *
هُنَالِكَ
ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً}
(الأحزاب:10،11).
عندما
بلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبر نقض قريظة للعهد، ماذا قال؟ (الله
أكبر، الله أكبر، أبشروا، أبشروا).
يقين
كامل، وطمأنينة تامة، وتوكل صادق على الله سبحانه وتعالى، من غير جزع ومن غير
هلع، لماذا؟ لأن الممتثل لأمر الله يعلم أن الله جاعل له مخرجا، وأنه مادام على
أمر الله، فالعاقبة خير في دنياه أو في أخراه، وكذلك كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم في مثل هذا الموقف، وقد ورد في الحديث الصحيح عن ابن عباس قال:
(حسبنا
الله ونعم الوكيل: قالها إبراهيم
عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا:
{إِنَّ
النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا
حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران:
الآية
173).
التوكل
القولي:
وأما
التوكل القولي الذي كان يهيئ معاني التوكل في القلب عند الملمات والحاجات، وعند
سائر الأحوال المعتادة فإنه كذلك من شمائله عليه الصلاة والسلام في التوكل.
روى
أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا غزى، قال: (اللهم أنت عضدي
ونصيري، بك أحول وبك أجول وبك أصول وبك أقاتل) رواه الترمذي في
سننه وقال: حسن غريب.
هنا
عند المعركة وعند المواجهة يدعو دائما عليه الصلاة والسلام بهذا الدعاء الذي فيه
معاني التوكل: (اللهم أنت عضدي
ونصيري، اللهم بك أحول وبك أجول وبك أصول وبك أقاتل).
يعني
الاعتماد كله على الله عز وجل، وعلى قوته سبحانه وتعالى، وعلى نصره سبحانه
وتعالى، وعلى حوله وقوته سبحانه وتعالى، وذلك تأكيد واستحضار لمعاني هذا التوكل
في قلب المصطفى عليه الصلاة والسلام في مثل هذه الظروف العصيبة في مواجهة الأعداء
وقتالهم.
وعن
ابن عباس رضي الله عنهما، قال: إن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان يقول:(اللهم لك أسلمت،
وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، اللهم إني أعوذ بعزتك، لا إله
إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون)
رواه
مسلم. وقد ورد عن البراء بلفظ قريب في دعاء
النوم.
وهنا
نلاحظ المعاني الإيمانية في هذا الدعاء، في صدق الالتجاء إلى الله عز وجل:
(اللهم
لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت).
وكان
صلى الله عليه وسلم يقول: (لا عدوى ولا
طيرة، ويعجبني الفأل والكلمة الحسنة)
هذه
بعض المواقف في شمائل النبي عليه الصلاة والسلام في التوكل، وهي جلية واضحة،
وفيها درس وعبرة، وفيها قدوة وأسوة
|
تعليقات
إرسال تعليق